فصل: تفسير الآيات (23- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (23- 29):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)}
سلطان مبين: حجة واضحة. هامان: وزير فرعون. قارون: من أغنى الأغنياء في ذلك الزمان. اني عُذت بربي: اني التجأت اليه. رجل مؤمن من آل فرعون: يقال إنه ابن عم فرعون. المسرف: الذي تجاوز الحد في المعاصي. ظاهرين: غالبين. ما أريكم الا ما أرى: ما أعلّمكم الا ما أعلم من الصواب.
لقد تقدمتْ قصةُ موسى أكثر من مرة، ذُكر هامان وقارون كل منهما ست مرات، وهذه آخر سورة يُذكران فيها. والجديد في قصة موسى هنا هو ذِكر الرجل الؤمن من آل فرعون. فإن الله تعالى لما أرسل موسى إلى فرعون وهامان وقارون كذّبوه وقالوا ساحر مبالغ في الكذب. ولمّا أعيت فرعونَ الحيلة ولم يستطع ان يأتي بحجة ضد موسى- صال لقومه: دعوني أقتلُ موسى، وليدعُ ربه لينقذه، فاني أخاف عليكم ان يغير دينكم {أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد} فقال موسى لفرعون وملئه: إني تحصنت والتجأتُ إلى ربي ولا اخاف منكم احدا.
وهنا يتدخل الرجل المؤمن من آل فرعون فيما لا يعرفُ أحدٌ أنه آمن، فيقول: اتقتلون رجلاً لأنه يقول إن الهي الله!! ولقد جاءكم بالأدلة الواضحة من رب العباد، وأفحمكم بالحجة القاطعة وعجزتم عن اقناعه!
{وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} وما عليكم من تبعته شيء.
{وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}.
ثم أضاف يقول: يا قومي، ان الملك لكم اليوم وانتم ظاهرون في ارض مصر، فمن ينقذنا من عذاب الله ان جاءنا!؟
فلم يلتفت فرعون اليه، وقال لقومه: {مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} واستمر على عناده وكفره.

.تفسير الآيات (30- 35):

{وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)}
ثم يتابع الرجل الؤمن من آل فرعون كلامه ويقول: يا قومِ، اني أخشى عليكم يوماً مثل يوم الأحزاب الذين تحزَّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية مثل قوم نوحٍ وعادٍ وثمودَ، وكل من جاء بعدهم من المعاندين الجاحدين، ولا اقول لكم هذا غلا خوفاً عليكم من أن يصيبكم ما اصاب هؤلاء الأولين من الهلاك، يوم تولّون مدْبِرين من عذاب النار فلا يكون لكم من الله مانع يمنعكم {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه أو يرشده.
ولقد جاء يوسفُ من قبل بالأدلَّة الواضحة، فما زلتم في شكٍ مما أتاكم به، حتى إذا مات قلتم لن يرسلَ الله من بعدِ يوسفَ رسولا {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ}.
ثم بين الله هؤلاء المسرفين المرتابين فقال: {الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} فهم يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان.
{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين آمَنُواْ} ان يجادلوا بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}.
كما يطبع الله على قلوب المسرفين المرتابين فهو يطبعُ على قلوب جميع المتكبرين الجبارين.

.قراءات:

قرأ عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب: {او ان يظهر}، والباقون: {وان يظهر}. وقرأ حفص ونافع ويعقوب وأبو عمرو: {يُظهر الفسادَ} بضم الياء ونصب الدال. والباقون: {يَظهر الفسادُ} بفتح الياء، وبضم الدال.

.تفسير الآيات (36- 40):

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)}
الصرح: البناء العالي. الأسباب: واحدها سبب، وهو ما يُتوصَّل به إلى الغرض المطلوب. التباب: الخسران والهلاك. متاع: ما يستمتع به من كل شيء في هذه الدنيا. دار القرار: الجنة، دار البقاء.
لا يزال الكلام في قصة فرعون وموسى.
ظن فرعون ان الأمر بهذه البساطة فقال لوزيره هامان: ابنِ لي صرحا عالياً لأصعد به إلى السماء لعلّي أطّلع إلى اله موسى هذا. ثم قال مستهزئا: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}
وهو يعني موسى في دعواه انه رسولُ رب العالمين.
وهكذا زين الشيطان لفرعون هذا العملَ السيء حتى رآه حسنا، ولم يرعوِ بحال، وحاد عن سبيل الرشاد.
{وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ}
ان مكر فرعون وعاقبة امره وكذبه تذهب سدى وفي خيبة ودمار.
ويأتي دور الرجل المؤمن من آل فرعون، ويستمر في نصيحته لقومه، مبيّناً لهم أن هذه الجياة الدنيا زائلة، وان الحياة الباقية هي حياة الخلد في الجنة، فيقول: يا قوم اتّبعوني أرشدْكم إلى طريق الصلاح. يا قوم، ما هذه الحياة الدنيا الا متاع زائل لا دوام له، {وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار}.
ثم بين الله تعالى كيف يكون الجزاء في الآخرة، واشار إلى ان جانب الرحمة فيها غالبٌ على جانب العقاب.... فمن أتى في الدنيا معصية من المعاصي مهما كانت لن يعذِّب الا بقدرها، ومن عمل صالحا، ذكرا كان أو انثى، وهو مؤمن بربه مصدّق بأنبيائه ورسله، {فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وهذه اكبر بشرى للمؤمنين، ورحمة الله وسِعتْ كل شيء.

.قراءات:

قرأ حفص وعاصم: {فأطلعَ} بنصب العين. والباقون: {فأطلعُ} بالرفع. وقرأ أهل الكوفة: {وصُد} بضم الصاد. والباقون: {وصَد} بفتح الصاد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر: {يُدخَلون} بضم الياء وفتح الخاء. والباقون: {يدخُلون} بفتح الياء وضم الخاء.

.تفسير الآيات (41- 46):

{وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}
لا جَرَم: لا ريبَ في. أفوّض: أسلّم. حاق: نزل.
لا يزال الكلام في قصة فرعون وقومه، وحديث المؤمن من آل فرعون. ويظهر ان هذا الرجل كان من ذوي المكانة والنفوذ حتى جرؤ على هذا الحديث الطويل، فهو يُهيب بقومه ويحثهم على الايمان، ويتعجب من عنادهم فيقول لهم: يا قوم إن أمركم لعجيبٌ، فإني ادعوكم إلى الايمان الذي ينجيكم من النار، وتدعونني إلى الكفر الله وإشراك غيره في العبادة. وهذا يوجب دخول النار. إنني أدعوكم إلى رُشْدكم، إلى عبادة رب عزيز كثير المغفرة واسع الرحمة.
ثم أكد ان أولئك الشركاء الذي يعبدونهم لا مقدرة لهم على شيء، ولا شأن لهم في الدنيا ولا في الآخرة، وان مرد الجميع إلى الله.
{وَأَنَّ المسرفين هُمْ أَصْحَابُ النار} سيدخلون فيها.
ثم ختم نصيحته بكلمة فيها تحذير ووعيد لهم فقال: {فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ}
وذلك يوم القيامة، يوم يقفون بين يدي الله، ويأخذ كل واحد منكم كتابه.
ثم لما يئس منهم قال: {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد}.
من ثم نجّاه الله من مكرهم، وأحاط بآل فرعون العذابُ السيّء، النار يدخلونها صباحا ومساء. هذا في الدنيا وهم في عالم البرزخ.. ويومَ تقوم القيامة يقول الله تعالى: {أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب}.

.قراءات:

قرأ أهل الكوفة الا أبا بكر: {أدْخِلُوا آل فرعون}، بقطع الهمزة. والباقون: {ادخلوا آل فرعون}، على أن آل فرعون منادى.

.تفسير الآيات (47- 55):

{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)}
يتحاجّون: يتجادلون ويتخاصمون. الضعفاء: الأتباع. المستكبرون: الرؤساء، السادة اولو الرأي فيهم. تبعا: تابعين لهم. مغنون عنا: دافعون الشر عنا. نصيبا: قسطا، وجزءا. حكم: قَضَى. خَزنة جهنم: القائمون عليها. يوم يقوم الأشهاد: يوم القيامة، والاشهاد: الشهود الذين يشهدون على الناس. العشيّ: من نصف النهار إلى آخره الإِبكار: اول النهار.
اذكرْ لهم أيها النبي حين يتخاصم أهل النار فيها، فيقول الأتباع من الضعفاء للذين اضلوهم من الرؤساء: إنا كنّا لكم في الدنيا تَبَعا، فهل انتم حاملون عنا بعض العذاب؟ فيرد المستكبرون قائلين: إننا جميعاً في النار، هذا هو حكم الله في عباده، ولا نستطيع ان نساعدكم بشيء. وفي سورة ابراهيم {قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [الآية: 21].
ثم خاطب الضعفاءُ خزنةَ جهنم وتوسّلوا إليهم أن يخفّف الله عنهم يوما من العذاب فأجابوهم موبّخين لهم: إن الله تعالى أرسَل إليكم رسُلاً مكرَّمين فلم تستجيبوا لهم. فاعترفوا بأنهم كذّبوا رسلهم. فقال لهم خزنة جهنم: فاذا كان الأمرُ كذلك فادعوا مهما شئتم، {وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}.
ان طلبَكم مرفوض، فلوموا أنفسَكم على ما أسلفتم.
ثم بين الله تعالى انه ينصر رسُله، والذين آمنوا معهم في الحياة الدنيا، {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} وهو يوم القيامة. وقد يكون الشهود من الإنسان نفسه كما قال تعالى: {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20]. وفي ذلك اليوم لا ينفع الظالمين اعتذارُهم عما فَرَطَ منهم في الدنيا.
{وَلَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار}
جزاؤهم الطردُ من رحمة الله وإنزالهم من جهنم في اسوأ مكان.
ثم ببين الله تعالى انه نَصَرَ موسى ومن معه، وآتاه هدى منه، واعطى بني اسرائيل التوراة الصحيحة غير المحرفة، {هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب} هاديةً ومذكِّرة لأصحاب العقول المدركة المفكرة.
وبعد أن بيّن أنه ينصر رسله والمؤمنين خاطب الرسولَ الكريم أن يصبر، وطمأنه إلى ان النصر له فقال: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ واستغفر لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار}
اصبر ايها الرسول على ما ينالك من الأذى من الناس، انّ وعد الله بنصرك ونصر المؤمنين حقٌّ لن يتخلف. ثم أكد عليه بان لا يترك الاستغفار والدعاء والتسبيح بحمده دائماً صباحاً ومساء، شكراً له على نعمه التي لا تحصى.

.قراءات:

قرأ أهل الكوفة ونافع: {يوم لا ينفع الظالمين} بالياء والباقون: {لا تنفع} بالتاء.

.تفسير الآيات (56- 63):

{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)}
بغير سلطان: بغير دليل ولا حجة. ادعوني: اسألوني. داخرين: صاغرين، أذلاء. لتسكنوا فيه: لتستريحوا فيه. تؤفكون: تصرَفون عن الحق.
اعلم يا محمد ان الذين يجادلونك في دين الله بغير حجّةٍ أو برهان يعلمونه إنما يدفعهم إلى ذلك ما يجدونه في صدورهم من الكيد والحسد، وعنادُهم وطمعهم في ان يغلبوك.
{مَّا هُم بِبَالِغِيهِ}
وما هم ببالغي إرادتهم، ولن يصِلوا إلى ذلك ابدا.
ثم امر رسوله ان يستعيذ من هؤلاء المجادلين المستكبرين بقوله: {فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير}
الجأ إلى الله واستعنْ به فهو السميع لاقوالهم، البصيرُ بأفعالهم.
ثم بين الله تعالى للناس وضعهم في هذا الكون الكبير، وضآلتهم بالقياس إلى بعض خلْق الله حتى يعلموا حقيقتهم، فيقول: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}
هذا ما يفهمه أصحاب العقول المدركة، فان إعادة خلْق الإنسان أهونُ بكثير من ابتداء خلقه، ومن خلْق هذا الكونِ العجيب. ان قدرةَ اله لا تُحَدّ، فاين الإنسان من هذا الكون الهائل؟.
ليس يستوي الأعمى عن الحق والبصير العارف به، ولا يستوي المؤمن العامل بإيمانه والمسيء في عقيدته وعمله، ذلك أن المؤمنين ابصروا وعرفوا فهم يحسنون التقدير، اما الأعمى بجهله فهو يسيء كل شيء. {قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} وما أقلّ ما تتذكرون.
وبعد أن قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة والبعث، أخبر بأنه واقع لا محالة: {إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ}
فآمنوا بها أيها الناس تفوزوا، وأطيعوا ربكم اذ أمركم أن تسألوه، فانه قريب يجيب داعءكم ويعطيكم. أما الذين يتكبرون عن عبادة الخالق فجزاؤهم جهنّم يدخلونها صاغرين.
ثم شرع الله يبين بعض نعمه على الناس، وهي تُظهر عظمته تعالى، لكنهم لا يشكرون عليها فقال: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ}
من أكبرِ النعم على الناس ان الله جعل لهم الليلَ ليستريحوا فيه من العمل، والنهارَ مضيئا ليعملوا فيه ويكسبوا رزقهم، والله هو المتفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} هذه النعم، ولا يعترفون بها. {نَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} الآية [إبراهيم: 34].
ثم بين الله كمالَ قدرته وانه الاله الواحد فقال: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ}
ذلكم الذي انعم عليكم بهذه النعم الجليلة هو الله خالق هذا الكون وما فيه، الاله الواحد المنفرد في الألوهية.
{فأنى تُؤْفَكُونَ}
فإلى أي جهة تُصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره!.
ثم ذكر ان هؤلاء الجاحدين ليسوا ببدعٍ في الأمم قبلهم، فقد سبقهم إلى هذا جحود خلق كثير فقال: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ}
فكما ضلّ هؤلاء بعبادة غير الله ضل الذين قبلهم بلا دليل ولا برهان.

.قراءات:

قرأ أهل الكوفة: {تتذكرون} بتاءَين، والباقون: {يتذكرون} بالياء. وقرأ ابن كثير ورويس {سيدخَلون} بضم الياء وفتح الخاء. والباقون: {سيدخُلون} بفتح الياء وضم الخاء.